تمنيت لو تكون هذه المقالة رسالة تهنئة للدكتورة سانحة أمين زكي بمناسبة صدور كتابها ''ذكريات طبيبة عراقية''، لكن خشيتُ أن أنكأ جروح النخبة العراقية المثقفة· فهذا الكتاب دراما النخبة الضائعة ما بين مطامحها الذاتية العادلة، والمصالح المشروعة للدولة العراقية الحديثة· فصام ذهني وعاطفي، إذا صحّ التعبير قصم حياة واحد من أول رؤساء وزارات العراق الحديث، محسن السعدون، الذي كتب في رسالة انتحاره عام 1929 ''الأمة تنتظر الخدمة والإنكليز لا يوافقون''· كان ذلك أول شرخ عاطفي وسياسي في ذاكرة مؤلفة الكتاب وأفراد جيلها· كانوا أول الأطباء والمهندسين والمحامين والمربّين، الذين تخرجوا من مؤسسات التعليم العالي العراقية، وشاركوا في بنائها في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وتشربوا بالتغيرات الثقافية والاجتماعية، التي رافقت نشوء الدولة، وتعرّضوا لهزّاتها السياسية الفتاكة: وفاة مؤسسها الملك فيصل الأول في جنيف بسويسرا في ظروف غامضة أثارت شكوك العراقيين، ومقتل ابنه الملك غازي بحادث سيارة، يُعتقد أنه مدبّر، وأول انقلاب عسكري قام به بكر صدقي عام ،1936 وحرب عام 1941 ضد بريطانيا، التي احتلت البلاد للمرة الثانية، ونكبة فلسطين، وما أعقبها من انتفاضات أعوام 1948 و،1952 و،1956 وأخيراً ثورة 14 تموز عام ،1958 التي تعتبرها المؤلفة ''أفجع مأساة دامية انتقلت بنا من شعب مثقف جديد إلى شعب برابرة''·
لماذا تنتهي ''ذكريات طبيبة عراقية'' مقيمة في لندن مع حدث وقع قبل نحو نصف قرن، ولا تنطق بكلمة واحدة عن الاحتلال الحالي للعراق، الذي يعارضه ملايين البريطانيين؟ هل لأنها كانت وزوجها، ''مدير شؤون النفط العام'' جزءاً من النخبة العراقية الغربية، التي كانت تحيط بالعائلة المالكة ونظامها الحاكم؟ أم لأن أبناء الجيل الجديد من أسرتها المذكورين في الكتاب أصبحوا وزراء وسفراء في حكومة الاحتلال الحالية؟ أم أن ذلك، حسب علم النفس ''عملية تحويل'' مشاعر عنيفة لا تطاق نحو أحداث ماضية، أو أنه تنفيس عن ألم مقهور، كاللطمات، التي يُنزلها سكان مغلوبون في محلات بغداد الشعبية بأبنائهم الواقعين في قبضة الشرطة؟
جميع هذه الاحتمالات واردة في ذكريات الطبيبة عن نشأتها في بغداد القديمة، وهي أجمل ما في الكتاب، الذي يتكون من 800 صفحة· أزقة بغداد الشعبية وأحياؤها: الفضل والبارودية والصابونجية والطوب والعزّه والمهدية والحيدرخانة، بأشخاصها وعوائلها ومشاهدها ومنازلها وأسواقها وحوانيتها ومقاهيها ومخابزها ومدارسها ومساجدها وتكاياها وكنائسها وباحاتها وضجيجها وروائحها، والأعياد والاحتفالات الدينية، التي يحتفي بها سكانها الخليط من السنة والشيعة، كعزاء الحسين وعاشوراء، و''السبايات''، وأذكار الدراويش، واحتفالات ''الزكريا'' الزاهية بالشموع والأوراق الملونة والحلوى، وعيد ''خضر الياس''، الذي تُطلق فيه شموع النذور في نهر دجلة على أطراف غصون النخيل فتجعله كشجرة عيد ميلاد أسطورية متلألئة، وليلة ''المحيا'' الصاخبة، بألعابها النارية ومتفجراتها، وأعياد نوروز الكردية ورأس السنة الميلادية المسيحية·
في تلك المناطق الشعبية ولد ونشأ الأشخاص، الذين أسسوا الحياة السياسية والفكرية للعراق الحديث· كثير منهم أقرباء، أو أصدقاء لأسرة الدكتورة سانحة، وبينهم زعماء سياسيون متعارضون: نوري السعيد وياسين الهاشمي وجعفر العسكري وكامل الجادرجي وحسين الرحّال، والمعماريون والفنانون والمسرحيون: حقي الشبلي وجواد سليم وخالد الرحّال وقحطان المدفعي ومدحت علي مظلوم، وحتى العسكريين قادة ثورة 14 تموز، الذين تكن لهم المؤلفة أشد ''الكره والضغينة'': عبد الكريم قاسم ووصفي طاهر وفاضل عباس المهداوي·
وهناك تعرفت المؤلفة على زمانها وعالمها· ''في سن الثامنة تعلمت ما تعني (السّنة)، وأنها كانت سنة 1928 وتزيد كل سنة عاماً واحداً، ووجدتُ ذلك شيئاً جديداً مهماً وأخذت أتكلم عن السنوات ما قبلها باعتبارها سنوات غابرة قديمة''· في تلك السنة أيضاً قرأت أول كتاب كان عن التاريخ، ليس مدرسياً، أخذته سراً من مكتبة أبيها· ''قرأته لأنه سحرني، وعرفت بأن الكتاب هو موضع سرور ولذة·· وهكذا أصبح الكتاب ألذّ سمير لديّ''· وفي سن مبكرة قرأت مجلات الهلال والمقتطف والرسالة واللطائف المصورة، والقصص البوليسية، وروايات طرزان وقصص المنفلوطي، ''ماجدولين'' و''سيرانو دي برجراك''، وجميع روايات جرجي زيدان التاريخية من ''فتاة غسان''، التي تجري حوادثها في العصر الجاهلي حتى رواية ''السلطان عبدالحميد''·
وفي بغداد القديمة شهدت أول العروض المسرحية· الممثلة المصرية فاطمة رشدي، التي كانت تأسر مشاعر جمهور الفتيات بدور ''كليوباترا'' في مسرحية أحمد شوقي، وتتعالى همهمات الأسف من الفتيات، عندما يظهر عزيز عيد، زوج فاطمة رشدي الأصلع القصير، الذي كان يلعب دور رئيس الكهنة ''حيف هذا رجلها''!
في تلك السنوات، التي شهدت تخرج أول المحاميات والطبيبات، كانت أناشيد فتيات المدارس تدعو إلى تحرير المرأة ''بني العراق اس